مقالات

من صوت الأب إلى صمت الرقابة

من صوت الأب إلى صمت الرقابة

بقلم الدكتورة:ايمان فوزي للأستاذ بكليه الآداب جامعه المنصورة

في زمنٍ ليس ببعيد، كانت المكالمات الهاتفية تُجرى من هاتف أرضي واحد في البيت، غالبًا ما يكون في غرفة المعيشة، متصل بسلك قصير لا يسمح بحرية الحركة، ولا يترك مجالًا للخصوصية. وكان من الطبيعي أن يرد الأب على الهاتف، أو تتشارك العائلة بأكملها في سماع المكالمة، فتكون المحادثات محدودة، مُراقبة، ولا تتم إلا تحت أعين الراشدين. لم يكن من السهل أن يتصل طالب جامعي بزميلته، فقد يُفاجأ بصوت والدها الجهوري على الطرف الآخر، يردّ عليه بصرامة، وربما ينهي المكالمة قبل أن تبدأ. كان هذا الإطار يُشكّل حاجزًا طبيعيًا يحفظ حدود العلاقات بين الجنسين، ويُرسّخ قيم الحياء والخصوصية، دون الحاجة إلى وعظ أو رقابة مفرطة. لكن هذا المشهد تغيّر تمامًا مع دخول الهاتف المحمول إلى كل يد، ومعه عالم مفتوح من الرسائل والتطبيقات والمكالمات الخاصة، بلا أي إشراف أو متابعة أسرية. أصبح بإمكان أي شاب أو فتاة التواصل مع من يشاءون، في أي وقت، ومن أي مكان، دون أن يعلم الأهل شيئًا عن طبيعة هذه العلاقات أو دوافعها. ومع هذا الانفتاح التقني، تسللت إلينا ثقافات جديدة عبر الشاشات ومنصات البث العالمية، مثل “نتفليكس”، التي قدمت تصوّرات مختلفة عن العلاقات العاطفية، فيها كثير من التجرؤ، والقليل من الحياء. وهكذا تغيّرت نظرة الشباب للعلاقة بين الجنسين، فتبدّلت اللغة والمفاهيم، وغلبت الجرأة على الحذر، والتجربة على التريّث. لكن المفارقة أن هذا الانفتاح، رغم ما يمنحه من فرص للتعارف وفهم الآخر، لم يُقلل من نسب الطلاق، بل على العكس، ازدادت بشكل ملحوظ، مقارنة بزمن “زواج الصالونات”، حين كان الشاب والفتاة بالكاد يعرفان بعضهما قبل الزواج. ربما لأن العلاقات اليوم تُبنى بحرية، لكن من دون عمق، ومن دون مرجعية قيمية قوية. ورغم أن الزمن تغيّر، إلا أن الحاجة إلى التواصل السليم، والبناء على أساس من الاحترام والوضوح، ما زالت ركيزة لا يمكن أن تستغني عنها أي علاقة حقيقية. ولعل الحل لا يكون في الرجوع إلى الوراء، بل في الموازنة بين الحرية والوعي، من خلال فتح قنوات حوار صادق بين الأهل وأبنائهم، وتربية تقوم على الثقة دون غفلة، وعلى التقارب دون اقتحام. فالحوار الناضج هو السلك الجديد الذي يربط بين القيم القديمة وعالم اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى